
القاهرة:الخرطوم:مدني نيوز
بقلم د/ شاكر صبري – مصر
لعل الشيطان عندنا جميعا معروف ،ٌ وهو رمز الشر عند كل البشر ، حتي الأطفال يعرفون الشيطان دائماً بأنه مركز الشر في الأرض ، ولكن نريد أن نحوم ببعض الخواطر حول الشيطان .
فالشيطانُ خلق من النار ، والمقصود به عندنا جميعا هو إبليس الذي كان طاووس الملائكة ، مع أنه مخلوق من النار ـ وإن كان إبليس من الجن فإنه خلق من مارجٍ من نارٍ ، ثبت عن رسول الله ﷺ من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: خلقت الملائكة من النور، وخلق الجان من مارجٍ من نار، وخلق آدم مما وصف لكم ” (يعني من الطين)” أخرجه مسلم .
وقيل أنه خلق من نار السموم ، قالي تعالي ” والجان خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ ” سورة (الحجر – 27) .
والجان خلقناه ( من قبل ) أي : من قبل خلق آدم ( مِن نَّارِ السموم ) أى : من الريح الحارة التي تقتل . وسميت سموماً، لأنها لشدة حرارتها ، وقوة تأثيرها تنفذ في مسام البدن .
وعن ابن عباس: أن الجان خُلِقَ من لهب النار، وفي رواية: من أحسنِ النار، وعن ابن عباس أيضا قال : ( كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار .
ولهذا فطبيعة إبليس تختلف عن طبيعة باقي الجن، والجن عموما بـأصنافهم المختلفة قادرين علي التشكل والتخيل بأشكالٍ غريبة ، ولهم قدرات علي اختراق جسم الإنسان .
ونذهب لإبليس :
عصي إبليس ربه وتكبر علي أن يسجد لمخلوقه آدم الذي خلق من طين ، ومهما كان فقد عصي أمر ربه الذي عرفه جيدا وكان مقرباً منه ، ولهذا فجرمه كبير وكبره واضح وجلي ، وتوعده ربنا سبحانه وتعالي بالنار، فطلب من الله أن يعطيه الذرية لكي يغوي بني آدم ويدخله النار معه ، سبحان الله يا إبليس بعد كل ما رأيت من قدرة ربك ، وبعد ما توعدك وأنت تعرف أنه لن يخلف وعده ، كان بإمكانك أن تدخل الجنة وأن تتوبَ ، وأن ترجع إلي الله تعالي ، ولكنك فضلت النار علي أن تسجد لآدم ، وهذه هي قضية الكبر فلا تتعجب أن تكون بين البشر في من يضحون بنجاحهم من أجل إذلال الآخرين ، حتي وإن كان بإمكانهم إسعاد أنفسهم معهم ، ولكنهم يمتلئون بالكبر والحقد فيضحون بأمورٍ كثيرةٍ حتي يستمتعوا أن يروْا غريمهم وقد مسه الضرر والأذى .
ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، لأن الكبر من صفات الله ومن يتكبر فإنه لا يتكبر على المخلوق فقط فإنما يتكبر علي الخالق الذي خلقه.
وقد استجاب الله لإبليس وجعل له ذرية ، وجعل لكل إنسانٍ من ولد آدم قرين من الجن يغويه ويصده عن ذكر الله ، وهو من نسل الأبالسة ، فإبليس وحده لن يستطيع أن يغوي البشر جميعا مهما كانت قوته ، وحتي لو غوي فلا بد أن يرافق الانسان حتي يغويه لكي يعلم خلجات نفسه ، وهو ما طلبه من الله وحقق الله له ما يتمناه ،وعاهد الله أن يدخل أكبر عددٍ منهم النار ولكن الله كما ذكر في كتابه العزيز ، وعد بأن يشملهم بعفوه وغفرانه ، وأن رحمته واسعة وأن باب التوبة مفتوح أمام الجميع فالله يعلم ضعف الإنسان ، والمغريات التي تحيط به وكما قال تعالي ” قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ” سورة ص ( 73- 85)
هل الشيطان يستطيع أن يغوي الإنسان ؟ الحقيقة أن خلق الشيطان كما قال تعالي ” إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ” فالشيطان غير مرئي تماما للإنسان ، وهو لا يمثل ضرراً نهائيا حين يتواجد معه لأنه طيفٌ من الهواء ، ولكنه خلق من نار خفيفة جداً فهو بمثابة محفز للشر ، فالشيطان نار تمر في عروق الإنسان يحفزه لفعل الشر ، والشر يمثل كل الشهوات فحين توجد دوافع الشر يتحرك الشيطان معها ، وهو يدخل بخاصيته إلي مخ الإنسان ، ويعلم دوافعه وغرائزه من خلال نبضاته وأعصابه فحين يشعر بالغضب تجده يتأجج مع الغضبان ، فيفقد ساعتها السيطرة ، ولهذا أمرنا النبي صلي الله عليه وسلم بان نذهب الغضب بالماء ، وبتغيير حالنا من القعود وغيره إلي العكس ، حتي نطفيء من نيران الغضب التي تجر صاحبها غلي الجريمة أو رما غلي المرض النفسي أو البدني .
والشيطان بهذا الطبع لا يصنع الشر عند الإنسان ، بل يشعله ويحفزه ، مثل نقطة البنزين التي تحرك موتور السيارة ، ويظل إبليس متمكنا ما وجد السبيل إلي ضرر الإنسان لن يرحمه مهما وصل حاله فهو يرديه غلي أسفل السافلين ما وجد لذلك سبيلا وكلما زاد الشر كلما وَجَدَ مكانا مريحا وهانئا مع صاحبه .
وهو يجري في دم ابن آدم مجري الدم في العروق ، و قد أمرنا الني صلي الله عليه وسلم بأن نضيق عليه بقلة الطعام والشراب
ولهذا فالإنسان يستطيع أن يتحكم في الشيطان بعقله ، ومنع دوافع الشر لديه ولكنه يحتاج إلي إرادة وقدرة وعزيمة ، ولكن إن ترك للشيطان سيطرة عليه ، فقد فَقَدَ هذه القدرة ، وأصبحَ يلعبُ به ويتحكم فيه ، إلا أن ينوي التوبة ويشعر بالندم .
وقال تعالي ” الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ” فهذا دأب الشيطان وهذه غايته وهذا مأموله لبني آدم علي مر الدوام
والشيطان وإن كان المقصود منه إبليس ، إلا أن معناه أنه كل من لم يرد لك إلا الشر ، بحرصٍ ودأب وغواية فقلبه ممتلئ بالغل والحقد لك فلا يصدر منه إلا السوء ، ولا يتلكم عنك إلا بسوء ،فهو يدل علي شياطين الإنس كما في شياطين الجن
ولهذا فالنفس البشرية حولها الكثير من المغريات وكما قال الشاعر
إبليس والدنيا ونفسي والهوي كيف النجاة وكلهم أعدائي
فالنفس بطبيعتها ميالة للشهوات ومحبة للهوي ومليئة بالطمع والجشع ، وحب السيطرة والاستعباد ، ولكن الإنسان بطبيعته يسيطر عليها إن أراد وعزم علي مقاومتها .
وكما قال تعالي ” ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها ” سورة الشمس ، أي وقد خاب من تركها مهملة بلا تطهير حتي امتلأت بالسواد والذنوب ، ولهذا فمقاومة إبليس تابع لمقاومة النفس ـ ووجود إبليس يزيد العبء علي الإنسان في المقاومة لنفسه وهواه ، ولكن بالإرادة يستطيع الإنسان أن يفحمه ويخزيه ويهينه بتمسكه بالطاعة وعدم تركه لنفسه زمام السيطرة والحكم ورجوعه لله تعالي ، وقد أقسم تعالي بالنفس اللوامة لأنها تقاوم خللها بنفسها وهي دائمة اللوم لنفسها فلا تترك للشيطان مكانا أن يعشعش فيها ، فالشيطان ليس له سلطان علي الذين آمنوا قال تعالي ” إنه ليس له سلطان علي الذين آمنوا وعلي ربهم يتوكلون ، إنما سلطانه علي الذين يتولونه والذين هم به مشركون ”
حين يتمكن الشيطان من الإنسان فهو يجره من عنقه دون أدني درجات الرحمة إلي كل سوء ، ويدفعه بلا تراجعٍ إلي جهنم ، وإلي الهاوية ، فمن ترك نفسه بلا مقاومة ، فسوف تنساقُ في النهاية إلي عبادة الشيطان ، وهو يغريه ويحبب له كل قبيح ما وجد الفرصة إلي ذلك متاحة .
والشيطان يوسوس و يعلم ما يدور في ذهن الإنسان ، يوسوس له دائماً بالشر ، ويدفعه له ويسير مع خياله ، وفكره لأنه يقرأ أفكاره ، فهو ملازم له ، وإن كان الشيطان بوسوسته يوصل الإنسان من حيث لا يدري من طريق الخير إلي طريق الشر فالعابد يزرع الشيطان في نفسه الكبر بعبادته ، أو يدفعه إلي الملل الشديد ، فيدفعه إلي المعصية ، ولكن النفس الواعية الطيبة تستطيع أن تسيطر عليه ، وإن كان الإنسان بمغرياته وضغوط حياته يضعف إلا أن الله جعل باب التوبة مفتوحا أمام العصاة ، والله عفور رحيم .
والشيطان يستطيع أن يتشكل للبشر بأشكال مختلفة كما كان يتشكل أيام النبي صلي الله عليه وسلم ، ولكن قدرته قليله فهو لا يفعل ذلك إلا لضرورةٍ قصوي ، وربما وجود التيارات المغناطيسية والكهرباء منعت الجن والشيطان من هذه الخاصية إلا في بعض الأماكن المهجورة جدأ فإن جسمهم من الصعب إن يتمكن من القدرة علي التشكل في وجود هذه التيارات ، وإن كنا لا نراها ولكنها تؤثر عليه ، فكما علم حديثا فإن جسم الجن يتكون من الأشعة تحت الحمراء .
والشيطان يظهر للإنسان عند موته عند الغرغرة كما تظهر الملائكة ، وحالة الغرغرة هي الحالة الوحيدة التي يكون الإنسان فيها بين الحياة والموت ،ولهذا يري ما لا يمكن لغيره أن يراه ربما رأي الملائكة ، ربما رأي الأنبياء ـ ربما رأي أرواح أحبابه ربما رأي الرسول صلي الله عليه وسلم ، يأتيه الشيطان للمرة الأخيرة وكله رجاء وأمل أن يجره إلي النار ، دأبه الغواية حتي آخر لحظة في حياة الإنسان ،يحاول الشيطان أن يستغل نقطة ضعف الإنسان وهو في حاجةٍ شديدةٍ إلي الماء ،يظهر له و يغريه بأن يسقيه مقابل أن يعبده ، والإنسانُ في حالة ضعف شديدٍ ، وهنا تظهر قوته وايمانه ، وهو يعلم أنه عدو الله ، وأنه مقبل علي الله ، فلا يطيعه ، وإن أطاعه فقد خسر وخاب وفاز الشيطان فوزا عظيما ، وحقق أعظم نصر له علي الإنسان بأن أغواه ..
وكما قلنا الإنسان لا يستطيع أن يري الشيطان أبداً إلا في حالةِ الغرغرة ، ولكن هناك حالة أخري يري الإنسانُ فيها الشيطان هي السحر فالساحر يظل يتقرب للشيطان بطقوسٍ وعباداتٍ حتي يرضي عنه ، ويمُرُّ بمراحل حتي تتأهب نفسه وروحه لروح الشيطان وبعد عدة طقوس يظهر الشيطان له ، ويختم عليه بخاتم السحر ، وبهذا ينال الساحر وسام الشيطان ويكون هناك بينه وبين الشيطان رسل وطرق للتواصل ، ويكلف الشيطان جناً بتنفيذ ما يريده منه الساجر ويعطيه قوة ًكبيرة في تحقيق أهدافه الشريرة
ومع ذلك فالشيطان لا يرحم الساحر ويظل يذله ويهينه حتي آخر لحظة في حياته ، وإن كان حبيبه وصديقه وصفيه ، إلا أن نفسه الخبيثة الكارهة للإنسان تابي إلا أن تذله ما وجد لذلك سبيلا ، ولهذا من الصعب جدا علي الساحر أن يعيش إنسانا طبيعيا إلا بعد توبةٍ صادقةٍ يقاوم فيها نفسَه وشيطانه مقاومةً شديدةً حتي يخرج من حكم وسيطرة الشيطان .
والساحر لا يأتي إلا بكل خبيث ولا يرتاح إلا مع كل هوي ، ونفسه قد أصبحتْ مقربة من كل اثم ، ولا يستطيع أن يسيطر علي شهوته أبدا ، فقدرته علي المقاومة أصبحت غير موجودة تماما ، لأنه رفيق الشيطان .
والأنبياء أيضاً يمكن أن يروه بإرادة الله تعالي، وكان يظهر لهم الشيطانُ في صورة إنسانٍ عادي ، وكما نعلم قصة النبي صلي الله عليه وسلم مع الشيطان ، فإن الله أجاب طلب النبي وأمنيته حين أراد أن يري الشيطان ، والنفس التي استطاعت أن تري الملائكة وتري جبريل أصبحت مؤهلة لأن تري ما لا يراه البشر ، ومن هذه الأمور الشيطان أو الجن ، ولا يستطيع الشيطان أن يعبث بالأنبياء حتي في منامهم .
وإن كان يعبث بالناس جميعاً ، فهو يزيد الوساوس والمخاوف عند الإنسان في منامه ، وربما جاء لبعض الناس بما يقلقهم او يخوفهم أو يشككهم في الآخرين ، فيجرهم بذلك في اليقظة من تكرار الوهم إلي فعل المعاصي أو ظلم الآخرين ـ أو ربما القتل أحيانا أو الشك الدائم ، والجهل يجعل للشيطان سبيلا إلي ذلك ، وهو يعلم إمكانيات الإنسان الذي يغويه فيحفز هذا الجانب لديه حتي يدله علي الشر
خاتمة
إن النفس البشرية بدون عقل ودليل الخير يجرها الشيطان تدريجيا ومن معها إلي كل الشرور في اليقظة والمنام والخيال حتي تفعل النفس البشرية كل الموبقات ، ولو رأينا ما فعل الشيطان بالعرب قبل بعثة النبي صلي الله عليه وسلم حيث جرهم إلي عبادة الأوثان وبالتالي إلي غيرها من أمور الجاهلية ، حين أغراهم بعبادة الأوثان ومنها إلي كل الخبائث .
ولكن الإنسان الذي يقاوم هواه فهو يقاوم شيطانه لأن الشيطان حليف ورفيقٌ لشهوات النفس ، وفي النهاية نقول كما قال تعالي
فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفًا ” سورة النساء ( 76 ) ، فالشيطان ضعيفٌ امام قوة الإيمان ومقاومة الهوي
وقويٌّ أمام من يخنع له ويتبع هواه .